مرحلة الهسكالاه في الأدب العبري الحديث

مرحلة الهسكالاه في الأدب العبري الحديث

مرحلة الهسكالاه

مرحلة الهسكالاه باللغة العبرية ההשכלה، وتمتد في الفترة من 1780- 1880م ، والهسكالا كلمة عبرية تعني التنوير أو الاستنارة، وتعبر عن تيار فكري اجتماعي اجتاح مجتمعات اليهود منذ القرن الثامن عشر، بهدف إخراجهم من عزلتهم، كي يتكيفوا مع الظروف المتغيرة التي استجدت من حولهم في العصر الحديث، وذلك دون أن يفقدوا هويتهم اليهودية وطابعهم المميز.

وقد اختلف الباحثون حول بداية هذا المصطلح بدلالته الراهنة، وعلى العموم فهو مقتبس من الكلمة الألمانية Aufklaerung والانجليزية Enlightenment.

والحق إن مرحلة الهسكالاه بين اليهود كانت انعكاسًا واضحًا لحركة التنوير الأوروبية، التي جعلت من أهم ركائزها التخفيف من سلطة النظم الموجودة في الدولة والكنيسة والمجتمع والاقتصاد، وأشارت إلى أن لكل شعب اتجاهات ووظائف خاصة به، كما طالبت بأن يكون البعد الإنساني العام أساسًا للتعامل والتفاعل والحياة، مما يستوجب استنكار الحروب، وعدم الاعتراف بالحدود السياسية، التي تفصل بين الإنسان والإنسان، ودعت إلى أن يرنو البشر جميعًا إلى التسامح والتعاطف، وإلى ما يؤدي إلى ترابطهم.

حركة التنوير الأوروبية إذن حركة تهتم بالإنسان بصرف النظر عن ديانته أو قوميته أو لونه، حيث نظرت إليه كإنسان قبل كل هذه الاعتبارات، وهو ما يتناقض آنذاك تناقضًا بينًا مع اتجاهات الجماعات اليهودية التي انكفأت على الأفكار الحسيدية الانعزالية بجمودها وشعورها بالتفرد.

وعلى الرغم من أن حركة التنوير الأوروبية قد فتحت الباب على مصراعيه أمام الجماهير اليهودية، كي تهجر الجيتو وما يشبهه، وتتخلص من روح الانغلاق الذي عاشت فيها أمدًا طويلاً، وعلى الرغم من أنها- أي حركة التنوير الأوروبية- طالبت بأن يُعامل اليهود كغيرهم من البشر، واستهجنت كل القوانين والسلوكيات المقيدة لحرياتهم، أو التي تنقص من قدرهم كمواطنين عاديين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، إلا أن المرء المتتبع لتاريخ حركة التنوير الأوروبية يفاجأ ببعض الفلاسفة من اليهود يشنون ضدهم حربًا عوانًا، بدعوى محاولتها طمس ما يسمى بـ “الهوية اليهودية والروح اليهودية“، وسعيها لتصفية “أمة الروح”، وتجاهلها لفكرة الاختيار الإلهي لليهود.

للمزيد إقرأ أيضًا:

ورغم ذلك كله فقد بدأت الأفكار التنويرية الجديدة تشق طريقها إلى داخل الجيتو، لتنقشع ظلماته، وتنحسر مجاهله، وتخف وحشته وتتبدد شيئًا فشيئًا، وترتفع الدعوة للخروج منه، والتخلي عن أفكاره بتخلفها وتزمتها.

وكان رائد هذه الحركة هو “موشيه مندلسون” (1729- 1786م)، والذي كان يعيش في ألمانيا، وكان ملم بكل من التراثين اليهودي التقليدي والأوروبي الحديث، ولهذا دعا جماهير اليهود إلى الاقتداءبه والسير على دربه، وتوسيع أفقهم الثقافي، بحيث يتخطى حدود التلمود وتعاليمه، ويخترق المجالات الثقافية الأكبر اتساعًا، وهي الثقافة الأوربية الحديثة.

وكانت أولى خطواته التي خطاها على هذا الدرب، هي ترجمة كتاب العهد القديم إلى اللغة الألمانية، وكان أول أغراضه من هذا هو إثارة حب اللغة العبرية في نفوس اليهود، بالإضافة إلى تشجيعهم على قراءة نص التوراة بهاتين اللغتين، وبهذا تحل العبرية والألمانية مكان الييديش، التي ساد استعمالها آنذاك بين يهود شرق أوروبا.

ثم كانت الخطوة التالية له تفسير هذا الكتاب باللغة العبرية على ضوء الفكر المعاصر، كما دعا مندلسون جموع اليهود إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وإحلال التلعيم العلماني محل التعليم الديني، وقد عمل أتباعه على نقل الثقافة العلمانية إلى العالم اليهودي بواسطة اللغة العبرية، التي نظروا إليها بصفتها الحافظة للتراث اليهودي القديم، والسمة الفكرية البارزة التي تميزهم عن غيرهم، وتوحد أقوامهم المشتتين.

وكان هذا النشاط اللغوي بمثابة محاولة لبعث جديد للغة كان الزمن قد عفا عليها، وقبعت في هوة النسيان؛ إلا أن نجاحهم في هذا الإطار آنذاك كان محدودًا للغاية، فقد فضلت الجموع اليهودية آنذاك التحدث بالألمانية، امتثالاً للظروف السياسية والاقتصادية السائدة في عصرهم، وفي ظل هذه الدعوة، أخذ قادة الهسكالا في ألمانيا، يجرون إصلاحات على نظام التعليم اليهودي، بل حتى وعلى تقاليد العبادة وطقوسها.

وقد كان الأدب من أهم أسلحة مفكري مرحلة الهسكالاه، إذ عن طريقه أخذوا ينشرون آرائهم ويدعون لمبادئهم، مؤكدين لليهود وخاصة لشبابهم، إنه عليهم أن يخرجوا من أسوار الجيتو، وينخرطوا في خضم الحياة من حولهم، ويصيروا مواطنين في بلادهم، شأنهم في ذلك شأن ابناء الشعوب التي يعيشون بينها، ويتكلمون لغاتها، ويتثقفون بثقافاتها، ويكون ولائهم الأول لها، وفي الوقت نفسه يحافظن على يهوديتهم، وطابعهم الديني والفكري المميز.

وقد عبر عن ذلك شاعر مرحلة الهسكالاه الأكبر يهود ليف جوردون (1830- 1892م)، في دعوته للشباب اليهودي بأن يكون يهوديًا في بيته وإنسانًا خارجه، وأخذت الصحف العبرية في الانتشار، وأهمها صحيفة “هميليتس המליץ”، التي كانت تصدر في بطرسبورج، و “هتسوفيه הצופה”، والتي كانت تصدر في وارسو، ومجلة “هشيلواح השלוח”، مما أدى إلى اتساع مساحة الناطقين باللغة العبرية.

واستغرقت مرحلة الهسكالاه فترة ما بين الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حتى ثمانينات القرن التاسع عشر، حيث تأسست جمعية “أحباء صهيون חובבי ציון”، وازدهر التيار الصهيوني.

ويرى كلاوزنر أن بداية أدب مرحلة الهسكالاه يرجع إلى موشيه مندلسون، ونفتالي فيزل (1725- 1805م)، وحيث أن أدب الهسكالا قد نشأ في أرض ألمانيا فقد تأثر بالأدب الألماني، ومع اتجاهه إلى شرق أوروبا، أخذت تتضح فيه تأثيرات جديدة.

ويقسم يوسف كلاوزنر أدب مرحلة الهسكالاه إلى ثلاثة أقسام:

أ- ألمانيا

ب- جاليسيا وإيطاليا

ج- روسيا وبولندا

وقد تميز كل مركز منها بسمة فكرية خاصة، ففي ألماني تميز أدب مرحلة الهسكالاه بالنضال ضد السلطان الديني المحافظ، فهنا نجد الحركة ومعاركها الضارية ضد اليهود الأرثوذكس والمحافظين الذين أبوا أن يفرطوا أو يغيروا فيما استقر في أذهانهم منذ القرون الكثار، ويقف على رأس هذا المركز اليهودي الألماني موشيه مندلسون وتلاميذه.

أما المركز الثاني “جاليسيا”، فقد شهد محاولة إيجاد التكامل والتوازن بين الاستنارة والدين، وحرصت الحركة على ألا تتخذ شكل المطالب بالتخلي عن الإله والتوراة، أو مقاطعة العقيدة، كما تميز بتشجيع الاهتمام بالتراث اليهودي، ويقف على رأس هذا الاتجاه نحمان كروخمال (1718- 1888م).

بيد أن الصراع بين حركة الاستنارة والدين عاد أشد ما يكون في المركز الثالث “روسيا”، حيث ربط الأدباء بين الدين اليهودي وحياة التخلف التي كان يهود شرق أوروبا يعيشونها (مندلي موخير سفاريم مثلاً).

وقد قدر للحركة أن تشيع وتنتشر بين جماهير اليهود الروس، واستطاع الأدباء تأسيس مركزين أدبيين على قدر كبير من الأهمية عند استعراض تاريخ الأدب العبري الحديث، حيث عاش فيهما معظم أدباء العبريين آنذاك، وعلى أرضهما تطور الأدب العبري واتخذ خطًا مغايرًا ومتجددًا، وهما:

1- فيلنا (عاصمة ليتوانيا)

2- أوديسا

وانقسم أتباع مرحلة الهسكالاه الروس إلى فريقين:

  • فريق روج لفكرة الاندماج في المجتمع الروسي، ونادى بالابتعاد عن التجمعات التي قد تثير الشعب الروسي، أو السلطة القيصرية ضدهم، وأتباع هذا الفريق كتبوا نتاجهم الأدبي باللغة الروسية عن عمد، حيث لم يفكروا قط في إحياء التراث اليهودي، وإن كانت موضوعاتهم تدور غالبًا حول اليهود واليهودية، وهو ما نستطيع أن نطلق عليه مجازًا “الهسكالا اليهودية”.
  • فريق ألمح برفض كل محاولات الاندماج، ونادى بالبقاء على الحياة اليهودية كما هي، مع الأخذ بالعلوم الحديثة؛ ولذا كان نتاج هذا الفريق باللغة العبرية، حيث جعلها الوسيلة الوحيدة لنشر الثقافة بين اليهود، حيث اعتبرها لغة التوراة ولغة التراث، وبالفعل نجح في مسعاه، حيث قدر له أن يخلق طبقة متوسطة يهودية متشبعة بالثقافة اليهودية، ولها ولاء كامل لتراثها الديني، ولكنها مشبعة أيضًا بالأفكار السياسية والاجتماعية الغربية من قومية واشتراكية، وهو ما أدى بالحركة للخروج عن مسارها في مرحلة لاحقة، وهذا الاتجاه يمكن أن نطلق عليه “الهسكالا العبرية“.

ويمكن أن نميز في أدب مرحلة الهسكالاه بين ثلاثة تيارات أدبية رئيسة هي:

أ- الكلاسيكية (1781- 1830م)

ب- الرومانسية (1830- 1850م)

ج- الواقعية (1850- 1880م)

ولقد تجازوت التيارات الثلاثة في كل مراحل الهسكالا، ولكن كل مرحلة تميزت بغلبة تيار بعينه على غيره، فاكتسبت المرحلة سماته وملامحه.

أما التيار الأول، فهو التيار الذي قام على أساسه عصر النهضة، ويتميز هذا المذهب بتغليب الشكل على المعنى والمضمون، وإيثار قيود الصنعة على حرية التعبير، وإعلان الأحكام العقلية على طلاقة الشعور، فهو يتناول النفس الإنسانية والحياة الاجتماعية في إطار من قوانين عقلية محدودة بحدود المنطق الجامد، لا يتغلغل إلى المشاعر والأحاسيس واضطراباتها.

وكان الأدباء الأوربيون في حينه يرون أن العقل هو الذي يحرر الإنسان من سيطرة الكنيسة، وأنه الضمان لحرية الفرد، ومن أشهر أدباء العبرية في هذا المذهب فيزل ومندلسون وغيرهما، إلا أن هذا التيار لم يحقق للجموع اليهودية الآمال الكبار التي كانت تراودهم، فهاجموا هذا المذهب واتجهوا إلى الرومانسية.

أما التيار الثاني (الرومانسية)، فيتميز بالاهتمام بالعاطفة والإحساس والخيال،وتغليب ذلك كله على العقل والمنطق الجامد، فالأديب الرومانسي لا يكبح كباح عاطفته، ولكنه يسترسل معها، وهو يهرب من وطأة الحياة المادية جانحًا صوب المتع الخيالية، يمجد الحواس ويتغنى بها، وربما يهرب إلى ماضيه عساه أن يعثر فيه على ضالته، ويمثل هذا المذهب أبراهام مابو، وميخا يوسف ليفنسون، ويهودا ليف جوردون في بداية حياته الأدبية.

وقد نشأ التيار الثالث (الواقعية)، حين هبط الناس من أبراجهم ليواجهوا الواقع، ويعانقوا الحياة، وكان العلم القائم على التجربةوالتحليل والتطبيق قد قطع شوطًا معقولاً من التقدم، واتسعت الهوة بين الأدب والعلم، الأدب يسبح في ملكوت من الأخيلة والتصورات، بينما العلم في أرض الحقيقة يجني أطيب الثمار؛ ولذا وجد الأدباء أنفسهم في مواجهة هذا الواقع العلمي القوي فآمنوا به، وطفقوا يواجهون الواقع وقضايا الحياة، وهكذا نشأ المذهب الواقعي أو التجريبي على دعائم الإيمان بالعلم في حقائقه وتجاربه وتطبيقاته، وهو مذهب يصف الواقع كما هو دونما تدخل من المؤثرات الداخلية لعواطف الأديب، ومن أبرز أدباء العبرية في هذا المجال يهودا ليف جوردون، وموشيه ليف ليلينبلوم، وبيرتس سمولينسكين وغيرهم.

وتجدر الإشارة في نهاية تلك اللمحة السريعة عن مذاهب الأدب في مرحلة الهسكالا، إن نشير إلى أن هذه المذاهب قد تتجاوز فترة زمنية واحدة، ولكن الغلبة آنذاك تكون لمذهب أدبي دون آخر، أي أن يتبوأ مذهب ما مكان الصدارة، وتركن المذاهب الأخرى إلى الظل، ثم يأتي وقت آخر، فيتبوأ مذهب من مذاهب الظل مكان الصدارة دون موت أي مذهب أو انقراضه، فالحق أن مذاهب الأدب- متى تبلورت واستقرت- كان لها أن تسكن إلى غير مهدها الذي نشأت فيه، وتحيا في غير عهدها الذي نهضت به، ذلك أن كل مذهب منها يمثل صيغة من صيغ التعبير، ويجلو صورة من صور المجتمع الإنساني، وهو بهذا خليق أن يدوم مادامت النفس، وأن يعيش ما عاش الإنسان.

وقد ظهر في فترة الهسكالا العديد من الأدباء العبريين الذين صار لهم دور مهم في مسيرة الأدب العبري الحديث، مثل نفتالي هيرش فيزل، وميخا يوسف ليفنسون، ويهودا ليف جوردون، وأبراهام مابو، وآدم هاكوهين، وبيرتس سمولينسكين،وغيرهم.

المصدر: زين العابدين محمود أبو خضرة، تاريخ الأدب العبري الحديث، القاهرة، 2000، ص 22-30.

عن مصرايم

شاهد أيضاً

مترجم عبري| الفتاة وقدر الحليب הנערה וכד החלב

مترجم عبري| الفتاة وقدر الحليب הנערה וכד החלב

مترجم عبري| الفتاة وقدر الحليب הנערה וכד החלב