أهمية دراسة الديانة اليهودية

أهمية دراسة الديانة اليهودية

تحتل الديانة اليهودية

مكانة مهمة في تاريخ الأديان، فهي أقدم الديانات التوحيدية، ولها دور كبير في فهم طبيعة ديانات الشرق الأدنى القديم. كما أن لها علاقة دينية قوية بالمسيحية والإسلام، بالإضافة إلى أهميتها في فهم التاريخ اليهودي، ومعرفة الحركة الصهيونية الحديثة.

دور الديانة اليهودية في معرفة تاريخ الديانات غير التوحيدية

بالنسبة لطبيعة ديانات الشرق الأدنى القديم، أفادت الديانة اليهودية بتركيزها على التوحيد كاعتقاد أساسي في معرفة تاريخ الديانات غير التوحيدية، التي اعتقدت في تعدد الألهة، وهو شكل من أشكال العبادة انتشر في العالم القديم. وكانت ديانة بني إسرائيل الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة الدينية، ولا يفهم التعدد إلا بضده وهو التوحيد، ومن هنا تبدو أهمية الديانة اليهودية.

كما أن انتشار عبادة الطبيعة، والوصول إلى نوع من التوحيد الطبيعي، لا يمكن فهمه إلا في إطار فكر ديني مضاد وهو الفكر التوحيدي غير الطبيعي؛ فالعلاقة بين الإله الواحد والطبيعة تحددت في التوحيد، من خلال اعتبار الطبيعة مخلوق للإله الواحد، وبالتالي فهي ليست مستحقة للعبادة.

ومن ناحية أخرى، فإن التوحيد الطبيعي، أي تركيز العبادة على عنصر طبيعي واحد، لم يخلص التوحيد من سيطرة الطبيعة، إذ ظل الإله خاضعًا لقانون الطبيعي، وغير مسيطر عليه، بينما في التوحيد الخالص تحققت السيطرة التامة للإله الواحد على الطبيعة والقانون الطبيعي والتاريخ، واعتبرت جميعها مخلوقة للإله الواحد.

دور الديانة اليهودية في التعرف على طبيعة ديانات الشرق الأدنى القديم

وهكذا تفيد دراسة الديانة اليهودية في التعرف على طبيعة الديانات المضادة لها، سواء في الشرق الأدنى القديم أو خارجه، فنتعرف على طبيعة الألهة المتعددة وصفاتها، في مقابل طبيعة الإله الواحد وصفاته. ونتعرف على طبيعة العلاقة بين الألهة وبين البشر والصراعات الناتجة عن التعدد، والمصير المأسوي للإنسان في ظل التعدد الذي يكشف غياب العدالة الإلهية، ووقوع الظلم بالإنسان بسبب صراعات الألهة التي تنعكس على المصير الإنساني.

دور الديانة اليهودية في التعرف على فكرة الخلق

وتفيد دراسة الديانة اليهودية أيضًا في التعرف على فكرة الخلق في ديانات الشرق الأدنى القديم. فالخلق في التوحيد يتم من خلال الكلمة الإلهية أو الأمر الإلهي، كما في “ليكن نور فكان نور”، بينما فهم الخلق في ديانات الشرق الأدنى القديم على أنه نتيجة لتزاوج الألهة الطبيعية، مثل زواج إله السماء بالإلهة الأرض، وينتج عن هذا الزواج الإلهي أسر إلهية تتكون من إله أب وإلهة أم وآلهة من البنين والبنات. وتصبح العلاقة بين الآلهة علاقة عرقية تصبح على أثرها الآلهة آلهة قومية، بينما الإله الواحد الخالق للبشرية والخليقة، لا تربطه بخليقته أية رابطة عرقية، فهو إله الجميع والموصوف بالعدالة والمستحق للعبادة من الجميع، والعلاقة بينه وبين خلقه تقوم على أساس من الطاعة، طاعة المخلوق للخالق.

ومن خلال صفة الأزلية التي يتصف بها الإله الواحد الخالق عرفنا طبيعة الآلهة غير الأزلية في ديانات الشرق الأدنى القديم، فالآلهة الطبيعية عرضة للحياة والموت، لأنها في الحقيقة ليست سوى عناصر طبيعية تتعرض لما تتعرض له الطبيعة من أحوال ومتغيرات. وأصبحت ظاهرة الآلهة الحية الميتة ظاهرة مفهومة، فالآلهة تموت بموت الطبيعة وتحيى بحياتها، أما الإله الواحد فهو إله حي لا يموت، لأنه واهب الحياة والموت.

دور الديانة اليهودية في التعرف على طبيعة الفكر الديني في الشرق الأدنى القديم

وفي النهاية أفادتنا لغة التوحيد الصريحة المباشرة، المعتمدة على المنطق والعقل في التعرف على طبيعة لغة الفكر الديني في الشرق الأدنى القديم، وفي العالم القديم ككل، فاللغة الأولى صريحة ومباشرة وعاقلة، لأنها لغة ديانة تشريعات وأحكام وتكاليف دينية واجبة على الإنسان في علاقته بالإله الواحد، ولا يمكن أداء هذه الواجبات والفروض الدينية والأحكام التشريعية إلا إذا كانت واضحة ومفهومة ومعقولة.

أما لغة الفكر الديني الوثني في العالم القديم فهي لغة رمزية، تعبر عن عالم غير مفهوم للإنسان في علاقته بالآلهة، فهو لا يفهم طبيعتها، وغير قادر على فهم إرادتها المتناقضة وعلاقتها ببعضها البعض، كما أنها خالية في معظم الأحوال من التشريعات والتكاليف المنظمة لعلاقة الإنسان بها، وببقية البشرية والخليقة، وتحولت اللغة في التوحيد من لغة رمزية غامضة إلى لغة دينية مباشرة ومعقولة، بل وأصبح العقل وسيلة من وسائل التعرف على الحقيقة الإلهية، في الوقت الذي غرق فيه إنسان بيئة التعدد في بحار الأسطورة برموزها الغامضة، وإشاراتها الغير مفهومة وعوالمها المجهولة.

دور الديانة اليهودية بالنسبة للديانات التوحيدية

أما دور الديانة اليهودية بالنسبة للديانات التوحيدية، فهو لا يقل أهمية عن دورها في معرفتنا بالديانات الوثنية التعددية، إن لم يكن أكثر أهمية، فاليهودية ديانة توحيدية اشتملت على عدد من الدعوات النبوية، التي أتى بها أنبياء بني إسرائيل، وكلها تركز على التوحيد كعقيدة أساسية، وتدعو إلى تخليص التوحيد من التأثيرات الوثنية التي نتجت عن اتصال جماعة بني إسرائيل الموحدة بعدة شعوب وثنية محيطة بها، مثل المصريين والكنعانيين والآراميين والفلسطينيين وشعوب بلاد النهرين والفرس والرومان وغيرهم.

وتمثل الديانة اليهودية الخلفية الدينية التوحيدية للديانة المسيحية، فدعوة عيسى عليه السلام دعوة توحيدية مرتبطة بديانة بني إسرائيل، باعتباره آخر أنبياء بني إسرائيل، واعتبار دعوته دعوة لتصحيح الأوضاع الدينية اليهودية، التي أدت إلى إصابة اليهودية بالجمود الديني والجفاف التشريعي، والتركيز على الاتجاه الدنيوي المادي على حساب الروحانية الدينية، وكذلك البعد عن التسامح والمحبة تجاه الشعوب الأخرى، والإحساس بالتمايز والأفضلية، وترجمة الاختيار الإلهي ترجمة عرقية، وتفسير العهد المقطوع مع الرب تفسيرًا إثنيًا قوميًا.

للمزيد إقرأ أيضًا:

وقد أتت دعوة عيسى عليه السلام بمفاهيم دينية إصلاحية مضادة لهذه الأوضاع الدينية اليهودية، وتبنت دعوة عيسى عليه السلام أسفار العهد القديم كأسفار دينية مقدسة، وحتى بعد تطور المسيحية، واستقلالها عن اليهود ظل الكتاب المقدس في المسيحية يشتمل على كتب العهد القديم ككتب دينية مقدسة، بالإضافة إلى كتب العهد الجديد.

ورغم انفصال الديانة اليهودية عن المسيحية تظل اليهودية مهمة في فهم دعوة عيسى عليه السلام، وفي معرفة المسيحية المبكرة، وفهم التغيرات التي طرأت على المسيحية خلال تطورها، وفهم الآراء التفسيرية الجديدة لمادة العهد القديم لتتفق مع معطيات المسيحية الجديدة. وأيضًا لفهم الكثير من مادة العهد القديم.

وقد تجددت الحاجة إلى اليهودية وتراثها عند بعض المذاهب والفرق المسيحية الأصولية، التي تعود إلى الكتاب المقدس كأصل أول للاعتقاد، وتعتقد حرفيًا في نبؤات العهد القديم. وقد صاغت بعض اعتقاداتها حول هذه النبوءات، ويتجلى هذا بوضوح في المذهب البروتستانتي والفرق الإنجيلية المنبثقة عنه، والأصوليات المتفرقة الناجمة عنها.

وبالنسبة لدور اليهودية في معرفة الإسلام، فالديانتان تشتركان في عدد من المعتقدات والمفاهيم الدينية، رغم الاختلاف في تفسيرها، مثل النبوة والتوحيد والوحي والكتب والملائكة والبعث والثواب والعقاب وغير ذلك، فهناك قاعدة دينية مشتركة بين الديانتين.

وتفيد الديانة اليهودية بكتبها المقدسة المسلم في التعرف على الأنبياء والرسل السابقين، وبخاصة هؤلاء الذي أرسلوا إلى بني إسرائيل، والذين طالب الإسلام المسلم بالإيمان بهم وبدعواتهم ورسالتهم.

والمسلم أيضًا مطالب بالإيمان بالكتب السابقة ومنها التوراة والإنجيل، وهي ذات أهمية في فهم بعض قصص القرآن الكريم، والمرتبط بالأنبياء والرسل عليهم السلام. ويحتاج المفسر المسلم للقصص القرآني للعودة إلى المصادر اليهودية مثل العهد القديم لتوضيح بعض ما ورد مجملاً من هذا القصص، أو للاستعانة بها في الحصول على مادة تفسيرية إضافية، طالما أن هذه المادة لا تخالف في مضمونها الرؤية القرآنية الإسلامية.

وقد سمح عدم الدقة في مراعاة هذا الشرط بدخول مادة إسرائيلية مخالفة للتعاليم القرآنية. وأصبحت هذه المادة في بعض كتب التفسير والتاريخ تمثل مشكلة، اصطلح على تسميتها بمشكلة “الإسرائيليات”، وهنا تظهر أهمية اليهودية ومصادرها مرة أخرى، لأن التعرف على الفكرة الإسرائيلية، التي تسربت إلى بعض المصادر الإسلامية لا يمكن أن يتم دون العودة إلى أصلها في المصادر اليهودية.

أهمية اليهودية في فهم التاريخ اليهودي

ولليهودية أهمية خاصة بالنسبة لفهم التاريخ اليهودي، فقد اختلط الدين بالتاريخ عند بني إسرائيل، إلى حد أن فهم كل منهما لا يتم إلا من خلال معرفة الآخر. وأصبحت أحداث التاريخ اليهودي تفسر تفسيرًا دينيًا من جانب المؤرخ اليهودي، كما أن العديد من الأفكار والمفاهيم الدينية تقوم على أسس تاريخية؛ فأحداث الخروج من مصر مثلاً لا يمكن فهمها داخل إطار تاريخي بحت، ولكنها ربطت بالدين، فأصبحت أحداثًا دينية، وكذلك الحال بالنسبة لأحداث السبي الآشوري والبابلي والروماني. كما أن الشتات اليهودي العام تم أيضًا تفسيره داخل إطار الدين.

كما لا يمكن فهم الصهيونية الحديثة بعيدًا عن مجال الدين اليهودي، فالصهيونية اعتبرت الحلقة الأخيرة والنهاية الحتمية للتاريخ اليهودي. واستخدمت الصهيونية الحديثة الدين اليهودي لتوصيل فكرها القومي إلى اليهود، وربطه بمسيرة التاريخ اليهودي العام.

وتأتي فكرة الخلاص الدينية، كأهم فكرة دينية استغلتها استغلالاً سياسيًا، وتحول الخلاص الديني على يد الحركة الصهيونية إلى خلاص سياسي. ورغم علمانية الفكر الصهيوني، فقد توسع في اسخدام الدين لتحقيق المصلحة الصهيونية؛ وبالتالي فالفهم الحقيقي للـ أيديولوجية الصهيونية يتطلب معرفة جيدة بالديانة اليهودية، خاصة وأن الفكر الصهيوني طور صهيونية دينية كمذهب صهيوني مهم إلى جانب أشكال الصهيونية العلمانية المختلفة، التي سادت في التفكير اليهودي المعاصر.

المصدر: كتاب تاريخ الديانة اليهودية، دكتور محمد حسن خليفة، ص 13- 18.

عن عزيزة زين العابدين

مترجمة لغة عبرية، وباحثة في الشئون الإسرائيلية في تخصص تحليل الخطاب السياسي الإسرائيلي.

شاهد أيضاً

موسى بن عمران في الخطط المقريزية

موسى بن عمران في الخطط المقريزية

موسى بن عمران في الخطط المقريزية