القاضى والإوزة!!

القاضى والإوزة!! قصة قصيرة

سرد: على زين العابدين

“هذه القصة سمعتها عن أبى, ولا أعلم من مؤلفها, وقمت فقط بسردها، وعلمت بعد كتابتها- ولى الشرف- أن كاتبنا توفيق الحكيم كتبها أيضاَ تحت عنوان “مجلس العدل” ناقلاً أيضاً عن التراث الشعبى المصرى”.

القاضي والأوزة!!

يُحكى أن صياداً فقيراً خرج فى طلب رزق أولاده, وعاد بأوزةٍ سمينة, فرح بها كثيراً, وسال لعابه عندما فاح عطر شواها فى عقله! فذبحها, وأودعها فران المدينة كى يشويها, بعدما أوصاه أن يعتنى بأوزته التى هى كل ثروته, وإرث أبناءه من بعده! فاشتمها قاضى القضاة فسال لعابه, فراود الفران عنها, وأخذ الأوزة ليأكلها, وأخبره أن يُبلغ الصياد إن ألح فى شكواه أن المُعجزة قد تحققت فى وزته, وطارت من بعد ذبحٍ وشواء!!

فجرى الصياد وراء الفران غير المؤتمن, وعندما أمسك به الصياد دافع عنه بعض المارة, فاخترق إصبع الفران بلا قصدٍ عين أحدهم فخرقها! وعندما أمسك الصياد والرجل الذى صار أعورٌ بالفران تدخل رجلٌ يصطحب زوجته المُثقلة ليخلصه من ايديهم, فطاشت يد الفران فضربت بطن المرأة فسقط حملها! ولما حاول ثلاثتهم الإمساك به, وجد مسجداً فدخله, ورأى مأذنةً فصعد سُلمها حتى سقط على رأس ساجدٍ فقتله! فهرع أخو المقتول من وراءه! وعندما هموا بالإمساك به وهو يصعدُ مرتفعاً من الأرض, أمسك الفران بذيل “حمارٍ” ليعينه على الصعود, فانقطع الذيل! وجرى صاحب الحمار فى طلبه مع الطالبين! حتى دخل الفران بيت القاضى:

الفران: الغوثُ يا سيدى القاضى..الغوث يا قاضى القضاة..

القاضى: ماذا دهاك..إهدأ..ألم أعدُك أنى سأكفيك الصياد؟!..

الفران: لم يُصبح “صيادٌ” يا مولاى القاضى!!..فهم الأن صيادٌ, وأعورٌ, وسقطٌ, ومقتولٌ, وحمارٌ صار “أذعرٌ”!!

القاضى: خرب الله بيتك..يا وجه الغراب!..

الفران: إنقذنى يا سيدى..فأنا لم أفعل إلا ما أمرتنى به!!..

القاضى: وهل أمرتك أن تُخرج “الشعب” كله فى طلبك يا غبى!!..من بقى من أهل المدينة لم يخرج وراءك!! وكل هذا من أجل ماذا؟!..من أجل “وزة”!!

وهنا يُسّمع صوت جلبة فى خارج دار القضاء, فيأمر القاضى حاجبه أن يُدخل أصحاب الشكاوى تباعاً, فدخل “الصياد” مُسرعاً:

الصياد: يا سيدى القاضى..إدّعى الفرانُ “بعثُ” وزتى الذبيحة!!..

القاضى: أتؤمن بالله؟!..

الصياد: لا إله إلا الله..

القاضى: إذاً ما المشكلة أيها الصياد؟!..أليس الله بقادرٍ على أن يفعل ذلك!

الصياد: نعم سيدى..تجلى الله فى عُلاه..ولكننا لسنا فى عصور المعجزات أو الكرامات, فليس بيننا “نبىٌ” ولا “ولى”!!

القاضى: هذا حُكمى..وعليك أن تدفع 20 دينار رسوم الدعوة !..الذى يليه..

الصياد: ولكن هذا ظُلمٌ..هذا ظلم..

القاضى: تظلم أينما شئت..فستؤل دعوتك إلىّ!!..أخرج من دارى أيها الشقى الفاسق..أخرج..

ويجرُ الحرس “الصيادُ” جراً إلى خارج القاعة, ويدخل “الأعور” متحسساً طريقه بيديه:

أنا يا سيدى حجتى دامغة, لا تحتمل السرد والإطناب..فها هى عينى “فارغةٌ” من سوادها..ولدى الشهود..

وبعدما تحسس القاضى شعيرات ذقنه, وقدح زناد فكره..نظر إلى “الأعور” قائلاً:

لا عليك فدعوتك واضحة..ولكن هل أنت على ملة أهل هذه البلدة؟

للمزيد إقرأ أيضًا:

الأعور: لا يا سيدى..فأنا “لستُ على ملتهم”!!

القاضى: حسناً..حكمنا أن تقتلع عينه كما اقتلع عينك!

الأعور: يحى العدل..يحى العدل..

القاضى: (ويستطرد القاضى) ولكن عليك أن تعلم أنه فى مدينتنا فإن عينُ من على ملتنا بعينين ممن سواه!..وعليك إذاً عينٌ لم تُقلع بعد!!

الأعور: علىّ إذاً أن أتحول من “أعور” إلى “أعمى” كى أخذ حقى فى بلدتكم ؟!!..هذا والله ظلمٌ..هذا ظلم..

القاضى: ..وعليك أن تدفع 20 دينار رسوم الدعوة !..الذى يليه..

وحملت “القوات الأمنية” التى تحمى القاضى “الأعور”..وهنا يُسمع صوت شئٍ يُقذف من علٍ..ويدخل الرجل أبو “السقط” حزيناً, دامع العين:

أبو “السقط”: لقد أسقط الفرانُ زوجتى..ولدى الشهود..

القاضى: حكمنا أن يُعوضك “الفران” بابنٍ غيره!..

أبو “السقط”: كيف؟!

القاضى: تُطلق زوجتك..ويتزوجها حتى “تحمل”!!..ثم يُطلقها..وتتزوجها أنت..(ويبتسم القاضى ببلاهة)..تتزوجها أنت..”يا خلبوص”!!..

أبو “السقط”: ماذا تقول أيها الشيخ الهرم..ألا تستحى من شيبتك..وانحناء ظهرك! بأى شرعٍ تحكم..والله الذى لا إله إلا هو لو حكم فينا “سفيهاً” لاستحى أن يتلفظُ بحكمك..حسبى الله ونعم الوكيل..

القاضى: (وهنا ينتفض القاضى على عرشه..وتنتفج أوداجه)..20 دينار رسوم الدعوى.. ووفقاً للمادة رقم…من القانون “التفصيلى- التوافقى” يُحبس وزوجته بتهمة إزدراء القاضى!!..

ويقتاد الحرس الرجل, وقد وضعوا الأغلال فى عنقه, وحول معصمه, وفى قدمه. ويدخل أخو القتيل الساجد, والرغبة فى الثأر تتطاير من عينيه:

أخو القتيل: أخى قُتل دون أن يرى من قتله, فقد كان ساجداً, ولدى الشهود على “الفران” القاتل!!

القاضى: حكمنا أن تصعد المأذنة, وتسقط على رأس هذا “الفران” القاتل كما سقط على أخيك!!

أخو القتيل: ومن يضمن لى أنى سأسقط على رأسه هو وليس رأسى أنا؟!!!!..

القاضى: هذا حكمنا.. وعليك أن تدفع 20 دينار رسوم الدعوة !..الذى يليه..

وقبل أن يتلفظ “ببنت” كلمة “سحبه الحرس من”قفاه” إلى خارج القاعة, وهنا يلمح القاضى صاحب الحمار, وهو يختلس النظرات مُتسللاً إلى خارج بيت القضاء!..فيصرخ القاضى فى حرسه..أمسكوههههههه:

إلى أين أنت ذاهب يا “حمّار”..هل أخبرك أحد أن دخول بيت قضاء مدينتنا مثل خروجه؟!!..ما دعواك؟!!

ويرتعش “الحمّار” وقد ابتلت ثيابه, وغرق فى عرقه:
أطال الله عزك..كيف أرفع دعوى فى حضرتك!! بسط الله عدلك (متلعثماً)..فلم نرى قاضياً فى نزاهتك..ولا حاكماً فى رأفتك!!..

القاضى فى خُبث:
وماذا عن حمارك الأذعر!!

فيُجيب الحمّار بلا تردد:
يا سيدى القاضى.. أليس الذى أنبت ريشاً للإوزة من بعد ذبحٍ وشواء بقادرٍ على أن يخلق حماراً بلا ذيل!!

تعليق:
فى اليوم الذى نُنكر فيه جميعاً هذا السرد القصصى, ونقول أنه لا وجود له حتى فى الخيال..سنكون قد حكمنا العالم مرة أخرى!!

بقلم|| الكاتب والباحث الاقتصادي

د/ علي زين العابدين قاسم

عن علي ذين العابدين

د/ علي زين العابدين قاسم حاصل علي الدكتوراة في الاقتصاد الزراعي، وله العديد من الدراسات في مجالات إدارة الجودة، والتنمية الزراعية.. له كتاب بعنوان "الجودة تكاليف وعوائد".

شاهد أيضاً

تحقق مفهوم “دولة اسرائيل الكبرى” في العصر الحديث

تحقق مفهوم "إسرائيل الكبرى" في العصر الحديث