هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر| الرحلة إلى مصر

هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر| الرحلة إلى مصر

كانت هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر من كنعان، بسبب المجاعة التي حلت بأرض كنعان، حيث كانت مصر

دائمًا الملاذ الذي يلجأ إليه البدو الكنعانيين في أوقات المجاعة، فقد كانت منقذهم الوحيد، حين كانت الأرض تجف في أوطانهم، وكانت تقدم لهم المرعى والماوى، وكان النيل بفيضانه المنتظم يتعهد بذلك.

تروي التوراة أن الخليل عليه السلام، قد أقبل من حيث كان يقيم في فلسطين، طلبًا للمأوى، بعدما حل ببلاده من قحط وجفاف، وعندما أشرف على التخوم المصرية، ووفقًا لما جاء في سفر التكوين في التوراة، فقد اتفق مع سارة زوجه أن تقول أنها أخته، وليست زوجته؛ وذلك لان المصريين إن علموا أنها زوجته قتلوه، وأما إن علموا أنها أخته فمن أجلها أكرموه.

وحدث ما توقعه إبراهيم، ووفت سارة بوعدها، وأخذت إلى بيت فرعون، ونال إبراهيم خيرًا بسببها، إذ أسبغ فرعون عليه بسببها وافر نعمه، من غنم وبقر وحمير وإماء وأتن وجمال. إلا ان المصائب سرعان ما توالت على فرعون وبيته، مما اضطره إلى أن يستدعي إبراهيم ويؤنبه على فعلته هذه، وطبقًا لرواية التوراة، فقد خاطبه قائلاً: “لماذا لم تخبرني انها امرئتك، لماذا قلت إنها أختك، حتى أخذتها لتكون لي زوجة”. ثم سرعان ما يصدر فرعون أمره بطرد إبراهيم وامرأته من مصر، وإن سمح له بأن يأخذ مال كان قد أعطاه إياه من قبل” (التكوين 12: 10- 20).

وهكذا ألصق كاتب قصة إبراهيم في سفر التكوين بالخليل عليه أفضل الصلاة والسلام فرية دنيئة، وهو أمر لا يقبله على نفسه أحط الناس خلقًا، فضلاً عن أن يكون ذلك خليل الله ورسوله وأبي الأنبياء؛ لذا اضطر العديد من علماء المسلمسن مناقشة هذه الواقعة الورادة في التوراة وتفنيدها، بغرض الدفاع عن النبي الكريم ودين الله العظيم.

هل قال سيدنا إبراهيم عن سارة “أختي” في مصر

أولاً: أن التوراة نفسها تتحدث عن أن إبراهيم عليه السلام قد جاء من كنعان وهو في الخامسة والسبعين من عمره، وأن سارة كانت في الخامسة والستين، وأنهما أقاما في كنعان ماشاء الله لهما أن يقيما، ثم هاجرا إلى مصر. فهل كانت سارة، وقد جاوزت السبعين من عمرها بسنين عددًا تفتن الرجال، فضلاً عن أن يرى ملوك مصر المترفين فيها إمرأة فانتة؟

ثانيًا: أن التاريخ ما حدثنا أن ملوك مصر كانوا يأخذون النساء من ذويهم غصبًا، وإنما حدثنا أن عقوبة الزنا عندهم كانت من أقسى العقوبات وأشدها ضراوة، حيث كان يُكتب على الزاني والزانية- كما جاء في بردية وستكار- الموت غرقًا أو حرقًا، ففي روايتها عن علاقة شاب بإمرأة كاهن، أن الشاب قد افترسه تمساح من صنع الكاهن نفسه، وأن المرأة اللعوب إنما قد اقتديت إلى ساحة في شمالي القصر، حيث أُحرقت علنًا، وألقى رمادها في النهر، ولعل ذلك إنما كان عقاب الزانية المحصنة.

للمزيد إقرأ أيضًا:

وثالثًا: أن إبراهيم عليه السلام، ربما كان يعرف من اللغة المصرية القديمة، بحكم انتشارها في البلاد التي قدم منها، طائفة من عباراتها وألفاظها تعينه على شئونه في مصر، حين أقبل عليها، فإذا كان ذلك صحيحًا، وهذا مجرد افتراض، لا يصل إلى حد اليقين، فإن الخليل عليه السلام لم يخرج على مألوف المصريين فيما كانوا به يتحدثون، فقد اكنوا يطلقون على الزوجة في لغتهم، فضلاً عن لفظ المرأة حمة وست حمة- لفظ الأخت (سونة= ولعلها تشبه اللفظ العبري “صنو”).

وكان ذلك نوعًا من التعبير عن المحبة والإعزاز، وما ندري لعل إبراهيم حين أقبل على مصر، فلقي الناس قد آثروا التروية والتعريض، فوصف زوجته سارة على مألوفهم بأنها “سونة” بمعنى الزوجة أو الأخت، حيث وقع أو أوقع في روع المصريين بلكنته الأجنبية، وما عسى أن رأوا من معاملته لسارة إنما قصد المعنى الأصلي للفظ الأخت، لا إلى المعنى المجازي له.

ولعل هذا الاتجاه في تفسير قصة هجرة سيدنا إبراهيم، إنما هو قريب مما ذهب إليه المفسرين المسلمين، حيث حرصوا على نفي الكذب عن أنبياء الله، وتنزيههم عن الوقوع فيه، وقالوا أن الكذب حرام إلا إذا عرض، ومن أمثلة العرب قولهم: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

هذا ويفسر ابن كثير قول إبراهيم بأنها “أخته” أي في دين الله، وأما قوله- كما في حديث البخاري وأحمد- إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فيعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك. ويتعين حمله على ذلك لأن لوطًا عليه السلام كان معهم وهو نبي.

ورابعًا: أنه ليس صحيحًا أن ملك مصر قد منح إبراهيم جمالاً، ذلك لأن الجمال وقت ذاك، إنما ظلت على التحقيق غريبة على المصريين، بل لقد كانت غريبة على من أقبل على مصر يومئذ من قبائل الساميين، فلقد أقبلت قبيلة “أبشاري” أو قافلته، تسوق الحمير لا الجمال، كما لم ترد فيما نقش على صخور سيناء في ذلك العهد صور للجمال، بل إن استعمال الجمال في هذه المنطقة لم يعرف إلا في أخريات القرن الثالث قبل الميلاد، وربما بعد ذلك.

وخامسًا: أن ذلك الاستعمال الخطأ للقب “فرعون” في التوراة، إذ أنه من المعروف تاريخيًا أن كلمة “فرعون” في صيغتها المصرية القديمة “بر-رعو” أو “بر- عا”، والتي تعني- بادئ ذي بدء- “البيت العالي” أو “البيت العظيم”، وهي طريقة من بين الطرائق الكثيرة التي كانت تشري إلى القصر الملكي، وليس إلى ساكنه.

ثم حدث خلال عصر تحتمس الثالث (1490- 1436 ق. م) أن الاصطلاح “بر- عو” أو “فرعون”ـ إنما بدئ في إطلاقه على الملك نفسه، وانطلاقًا من هذا، فإن إطلاق كلمة أو لقب “فرعون” على ملك مصر قبل عصر تحتمس الثالث، إنما يعد خطأ في تسلسل تواريخ الأحداث، حيث أصبحت لفظة “فرعون” تعبيرًا محترمًا يُقصد به الملك نفسه منذ هذه الفترة من عصر الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق. م).

وسادسًا: أن استعمال لقب فرعون، إنما يبدو مؤكدًا منذ أيام “اخناتون” (1367- 1350 ق. م)، حيث يشير “سير ألن جاردنر” العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة، إلى أن هناك خطابًا من عصر اخناتون استعمل فيه لقب فرعون بالنسبة إلى ملك مصر (أي اخناتون)، ثم سرعان ما أصبح لقب فرعون منذ عهد الأسرة التاسعة عشرة (1308- 1194 ق. م) وما بعدها يستعمل في بعض الأحيان كمرادف لكلمة “جلالته”، ومن هذا الوقت أصبحنا نقرأ : “خروج فرعون” و “قال فرعون”، … وهكذا.

وهكذا يبدو واضحًا أن استعمال التوراة للفظة “فرعون” في قصة هجرة سيدنا إبراهيم إلى مصر، وكذا في قصة الصديق يوسف– عليهما السلام- إنما هو خطأ تاريخي. والأمر غير ذلك تمامًا بالنسبة إلى القرآن الكريم الذي حرص في سرده لقصة يوسف الصديق عليه السلام- والذي عاش على أيام الهكسوس (حوالي عام 1725- 1575 ق. م)، على أن يلقب حاكم مصر الذي عاصر النبي الكريم بـ “الملك”، بينما حرص على أن يلقب الملك الذي عاصر موسى عليه السلام بـ “الفرعون”.

وسابعًا: أن الهدف من هجرة سيدنا ابراهيم، كما يقول المؤرخ اليهودي يوسف بن متى، أن الخليل عليه السلام قد اعتزم أن يصيب من خيرات مصر، وأن يجمع ما يقوله رجال الدين فيها في أمر الله- سبحانه وتعالى- وفي نفسه إذا علم من كلامهم ما هو خير مما عنده أن يتقبله، أو يرى أن عقيدته خير مما عندهم (وهذا هو الصحيح فيما نؤمن به ونعتقد فيه) فيدعوهم إليها.

هذا فضلاً عن دوره في الإصلاح بين الكهنة، ذلك أن إبراهيم قد رأى أن المصريين متشبثون بعادات شتى يخالف بعضهم بعضًا من جرائها، ويعادي بعضهم بعضًا لأجلها، جعل يناقشهم فيها كل فريق على حدة، ويبدي لهم جميعًا أنها ليست على شيء من الحق، ويحل بذلك منهم محل الإعجاب، فيعلمون أنه لم يكن على نصيب وافر من الفطنة وحسب، بل كان على قدر عظيم من القدرة على الإقناع سامعيه في كل موضوع تناوله ببحثه.

أسباب هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر

وهكذا يبدو أن هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر لم تكن بسبب مجاعة حلت بأرض كنعان- كما تقول التوراة- وليس كما يقول الدكتور ماير، بسبب الشدة التي واجهته، وهنا استبد به الخوف ، ولبى أول هاتف للنجاة خطر بباله، كما يتعلق الغريق بالقشة، وهكذا نراه ينزل إلى مصر دون استشارة أبيه السماوي الذي تعهد بحمايته.

وأيًا ما كان الأمر، فقد طالت فترة هجرة سيدنا ابراهيم في مصر فترة لا ندري مداها على وجه التحديد، ثم يعود منها وقد أفاء الله عليه بالخير الكثير من أرض الكنانة، وأصبح غنيًا في “المواشي والفضة والذهب”، والأمر كذلك بالنسبة إلى أخيه لوط عليه السلام، ورفيق رحلته الذي “كان له أيضًا غنم وبقر وخيام”، مما أدى في نهاية الأمر إلى أن يزدحم رعاتهما، الأمر الذي دعا الخليل إلى أن يقترح على لوط أن يستقل كل منهما بمنطقة خاصة، “فسكن أبرام في أرض كنعان، ولوط سكن في مدن الدائرة، ونقل خيامهم إلى سدوم” (التكوين 13: 1- 12).

ومن ثم فليس صحيحًا، ما ذهب إليه “القس منيس عبد النور” من أن المخاصمة قد حدثت بين إبراهيم ولوط بسبب كثرة المواشي التي أخذها من فرعون، وضاع احترام إبراهيم في عين لوط ابن أخيه، بل إن القس منيس نفسه سرعان ما يعود مرة أخرى فيحمل لوطًا وزر الخصام بيه وبين الخليل عليهما السلام، حين ذهب إلى أن لوطًا قد اشترك مع إبراهيم في الخصام، ولم يتأدب مع عمه، ولم يطلب منه أن يختار هو أولاً.

متى كانت هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر

يرحج العلماء أن هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر كانت على أيام الأسرة الثانية عشرة (1991- 1786 ق.م)، ذلك لأن القوم في مصر، منذ أيام عصر الثورة الاجتماعية الأولى بدأت أفئدتهم تتجه نحو معان جديدة، ومبادئ جليلة، صحيح أن فريقًا من الناس قد اهتز يقينه بالدين، نتيجة الاضطرابات العنيفة التي صاحبت الثورة، فأنكر الإله واستخف بالآخرة والحساب، حتى ذهب بعضهم- فيما يروي إيبور حكيم الثورة ومسجل أحداثها، إلى أن “الرجل الأحمق يقول: إذا عرفت أين يوجد الإله، فإني أقدم له قربانًا”.

وصحيح كذلك أن فريقًا آخر من الناس بدأ يشك في الحياة الآخرة، وبدأ يدعو المترفين من القوم إلى التمتع بمباهج الحياة الدنيا وزينتها، وما وسعهم إلى ذلك من سبيل، دونما قلق على الآخرة، وما يصيبهم فيها، لأنهم لا يعلمون عنها شيئًا، ذلك أن واحدًا من الراحلين لم يأخذ معه شيئًا، مما اقتناه في الدنا، عندما ذهب إلى الآخرة.

ولكنه صحيح كذلك، أن فريقًا منهم لم يرض عما آل إليه حال البلاد، ولا سكت عما نزل بها من الكوارث والمحن، فانطلقت الأفواه والأقلام بما أتيح لها من التعبير عن الشوق إلى العدل وعودة البلاد إلى النظام والأمن، وذاعت في الناس دعوة تبشر بالمخلص المنتظر الذي يملأ الدنيا عدلاً، بعد أن ملئت جورًا، يقول إيبوير في وصفه للمنقذ الذي يأمل الخير على يديه: “إنه يجلب البرودة إلى اللهيب، ويقال عنه أنه راعي الإنسانية، لا يحمل في قلبه شرًا، وحين تكون قطعانه (أي رعاته)متفرقة فإنه يصرف يومه في جمعها”.

وفي هذه الفترة من تاريخ أرض الكنانة المجيد، بدأ المصريون يتخذون من المساواة بين الناس دستورًا تسير الدولة عليه، ونصوصًا مكتوبة فيما صدر من نصائح جرت على لسان الجالس على العرش نفسه، يقول “خيتي” الملك الأهناسي لابنه “مري كرع”: “لا تفرق بين ابن النبيل وبين ابن فقير الأصل، وتخير الفرد بكفاءته الشخصية”، وذلك لأن الناس سواسية أمام خالقهم، يقول الملك الإهناسي “البشر رعايا الإله، خلق السماء والأرض وفق رغبتهم، وأجرى المياه دافقة لهم، وخلق الهواء لتحيا أنوفهم… وخلق العشب والماشية والطير والأسماك ليقتاتوا بها…”.

هذا وقد بدأ المصريون في ذلك العصر يؤمنون كذلك بأن الوسائل المادية، ليست وحدها هي الوسيلة الوحيدة للسعادة في الآخرة، وإنما أصبح للأخلاق في هذا العصر شأن عظيم في تقرير مصير الإنسان بعد مماته، وبذا أصبحت الأهمية الكبرى للوصول للخلد، إنما هو العمل الصالح، يقول الملك الإهناسي لولده: “لا تكن شريرًا فالصبر خير، اجعل بيت ذكراك خالدًا بحب الناس لك”، ويقول: “اجعل الناس يحبونك في الدنيا، فالخلق الطيب ذكرى للإنسان”، ثم يعلن صراحةً أن الخلق الطيب أفضل عند الله من القرابين التي تقدم لاستعطافه: “إن خلق الإنسان المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الشرير”، أي الثور الذي يقدمه كقربان إلى الله.

وهكذا أصبح القوم يؤمنون بمبادئ جديدة، ومعان جليلة، غلبت فيها الروح على المادة، وأصبحت السعادة في صالح الأعمال، وفيما يكتسب المؤء من فضائل، فأشادت الأقلام بالنظام والعدالة، وبشرت بأن الخلود لا تسوغه وجاهة أو ثراء، وإنما سبيله اجتناب الآثام وفعل الخيرات، وهي بهذا قد أرهصت بما علم الأنبياء، وأعدت الناس لما يبعثون به من رسالة ودين، بل نطقت ببعض ما بثته الأنبياء بلفظه ومعناه، مما يدل بوضوح على أن مصر إنما كانت في تلك الفترة أرضًا خصبة لبذر بذور دعوة أبي الأنبياء ومبادئه السامية.

ولعل هذا كله يدعونا إلى أن نتفق مع الذين يذهبون إلى أن عصر هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر، إنما كان على أيام الأسرة الثانية عشرة (1991- 1786 ق. م)، ذلك لأن الأحوال المواتية التي كانت خليقة أن تجذبه إليها، وتغريه بالإقبال عليها والإقامة فيها، إنما هيأت واستقرت على عهد ملوك الأسرة الثانية عشرة، ولم تتهيأ قبلها، ولا استمرت طويلاً بعدها.

ذلك أن الفترة التي سبقت الأسرة الثانية عشرة- وبخاصة تلك التي كانت على عهد الثورة الاجتماعية الأولى- إنما كانت أيام فوضى سياسية وانهيار اقتصادي، حتى أن إيبوير يصور لنا حالة البلاد في تلك المرحلة العصيبة، وكيف انقلبت إلى عصابات، وأصبح كل فرد فيها مسلحًا بدرعه، لأن المشاغبين قد انتشروا في البلاد يعيثون فيها فسادًا، فيقول” “تدور رحى الفخار، حقًا: لقد شحب الوجه، وأصبح حامل القوس مستعدًا، والمجرمون في كل مكان، ولا يوجد رجل من رجال الأمس، حقًا إن الناهبين في كل مكان”.

وهكذا عمت الفوضى البلاد، وعز فيها الأمن، وسادت الحرب الأهلية، فأخذ الأهل يقتلون بعضهم البعض، حتى وصل الأمر إلى الأسرة الواحدة، “فالرجل يذبح أخاه من أمه”، و “الرجل ينظر إلى ولده نظرته إلى عدوه”، ويحدثنا “نفرتي” في نبوءته عن ذلك كله فيقول: “أصبحت البلاد في كرب وعويل، لقد حدث ما لم يحدث من قبل، سيحمل الناس أسلحة الحرب، حتى تعيش الأرض في اضطراب، وسيصنع الناس أسلحة من النحاس، حتى يلتمسوا الخبز بالدم، ويضحكون ضحكة الموت”.

وانطلاقًا من هذا كله، فلم يكن إبراهيم عليه السلام ليأتي إلى مصر في ذلك الزمان، فإن هذه الأحوال التي نستطيع اتخاذها- فضلاً عن حساب السنين من قرائن عصره، كما رأينا من قبل- لمانعة رجل مثله أن يهجر جوعًا إلى جوع، وإملاقًا إلى إملاق، بل يهجر أمنًا وإملاق، إلى اضطراب وإملاق، فضلاً عن استحالة نشر الدعوة في هذا الجو المحموم.

وأما بعد عهد الأسرة الثانية عشرة- أي عهد الأسرة الثالثة عشرة- ثم دخول الهكسوس مصر- فرغم اضطراب الأمور فيه، فإنه العصر الذي يرجح العلماء فيه دخول يوسف- ومن بعده عشيرته من بني إسرائيل- إلى مصر- وليس بحال من الأحوال هجرة سيدنا ابراهيم إلى أرض الكنانة.

وعلى أية حال، فالظاهر من رواية التوراة والمشنا أن هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر كانت جهرة، ولم يدخلها تسللًا، وأنه لم يدخل في عهد من عهود الاضطراب والفوضى التي سبقت أيام الأسرة الثانية عشرة، أو لحقت بها على أيام الهكسوس، بل إنه عليه السلام إنما أقبل وهو يعلم على دولة مستقرة منظمة سوف يسأل عند الحدود فيها عن هويته وهوية من معه من رجال ونساء، فكان منه ما كان من حديثه إلى امرأته سارة، فيما اتصلت روايته في سفر التكوين من التوراة، وما جاء في صحيح البخاري.

ويستخلص كذلك مما جاء في المشنا فيما كان من هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر مع سارة، أن التخوم المصرية إنما كان عليها المكوس من يسأل ويستقصي القادمين فيما يحملون من أمتعتهم من عروض، إذ روت أن الخليل عليه السلام قد خاف على فرعون وقومه الفتنة من جمال سارة، فحملها في تابوت وهم يعبرون تخوم الديار، وسأله عمال المكوس عما في التابوت، فأنبأهم أنه شعير.

قالوا بل نأخذ المكوس على قمح، قال: خذوا ما تشاءون فعادوا يطلبون الضريبة على بهار، فأجابهم إلى ما طلبوه، فارتابوا فيما يخفيه وأمروه أن يؤدي الضريبة على وسق التابوت ذهبًا، فقبل وأعطاهم سؤلهم، فحيرهم قبوله كل ما يساومونه أن يبذله وخامرهم شك عظيم، ففتحوا التابوت عنوة، فإذا بالنور يفيض من وجه سارة حتى يعم الديار ويغشي عين فرعون.

ورغم ما في هذه رواية هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر من نقاط ضعف، تكاد تقضي عليها، وتحول الشك فيها إلى يقين بعدم صحتها، إلا أنه تشير في نفس الوقت، إلى أن عصر هجرة سيدنا ابراهيم أرض الكنانة، إنما كان عصر استقرار وأمن في البلاد، فالحدود محمية، وعمال المكوس يجبون الضرائب من القادمين إلى مصر، ولا يستطيع واحد منهم إلا أن يخضع لما يريدون.

غير أن ما تشير إليه رواية هجرة سيدنا ابراهيم إلى مصر من قدرة إبراهيم المالية، حتى أنه كان قادرًا على أن يؤدي الضريبة على وسق التابوت ذهبًا، إنما يهدم رواية التوراة، التي تذهب إلى أن إبراهيم إنما جاء إلى مصر هربًا من قحط حل بأرض كنعان، من الأساس. فضلاً عن تعارضها مع بقية قصة إبراهيم عليه السلام، كما جاءت في التوراة، وكيف أنه عرض شرفه وشرف سارة في مقابل مجموعة من ماشية منحها إياه ملك مصر.

ثم إذا ما تذكرنا أن قصر العرش المصري، حيث يفترض أن يوجد الجالس على عرش الكنانة على أياه دخول إبراهيم مصر، في عهد الأسرة الثانية عشرة، إنما كان في “اللشت”، وأن المكوس إنما كانت تجنى في التخوم الشرقية للبلاد، لرأينا إلى أي مدى لعب الخيال اليهودي في القصة، وأخيرًا فهل كانت هذه السيدة، وقد جاوزت السبعين من عمرها، تملك هذا الجمال وهذا النور، ولكن ما حيلتنا، وكل رواية يهودي تناقض أخرى، وهذه تناقض الثالثة وهكذا.

المصدر: محمد بيومي مهران: بنو إسرائيل، التاريخ منذ عصر إبراهيم وحتى عصر موسى عليهما السلام، دار المعرفة الجامعية، الأسكندرية، 1999، ص 92- 103.

عن عزيزة زين العابدين

مترجمة لغة عبرية، وباحثة في الشئون الإسرائيلية في تخصص تحليل الخطاب السياسي الإسرائيلي.

شاهد أيضاً

الفرق الیھودیة القدیمة وتأثيرها في الواقع

الفرق الیھودیة القدیمة وتأثيرها في الواقع

الفرق الیھودیة القدیمة وتأثيرها في الواقع

2 تعليقات

  1. من المؤسف ان العرب والمسلمين يعلنون عداءهم لاسرائيل لكنهم في الحقيقة ومن غير مايعلمون هم منفذون للمشاريع التوراتية في المنطقة !
    ابراهيم ع لم يولد في العراق كما تروج الرواية التوراتية ورحلته المزعومة من العراق الى تركيا ومصر ثم العودة الى فلسطين ما هي الا رواية توراتية لترويج دولة من النيل الى الفرات فزعموا ان ابراهيم مشى وقطع كل هذه الارض ( من النيل الى الفرات )..
    ابراهيم ولد في اليمن وهاجر من اليمن الى حوران اليمنية وليس الى حوران السورية ,
    ودخل مصرايم وهي في منطقة الجوف وكانت مملكة في عهده ولم يدخل مصر الحالية كما يزعم اليهود ويقلدهم المسلمين .. ثم هاجر شمالا نحو مكة المكرمة واقام قواعد البيت هناك .
    لم يدخل مصر العربية ولم يكن في العراق ولا في سوريا , المؤسف ان البحاث العرب واهل الاختصاص
    يأخذون معالم تاريخهم من المستشرقين ومن روايات التوراة والاسرائيليات في التراث الاسلامي , فيروجون لمفاهيم اسرائيلية وهم لايعلمون ..

    https://www.iraqcenter.net/vb/showthread.php?t=90453

%d مدونون معجبون بهذه: